إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من عظمة هذا الدين وشموليته وسعته أنه ما ترك شيئًا في حياة المسلم إلا ونظمه ورتبه، وجعل له قواعد وضوابط يسير عليها ويلتزم بها، وذلك كله بأمر الله جل وعلا وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن مما يشتهر عند غير المسلمين -وبعض المسلمين للأسف أيضًا- أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس، فلا ضحك ولا مزاح، ولا لهو ولا متعة. ولكن شمولية الإسلام تأبى إلا أن تبيح الترويح عن النفس، بضوابط تضمن ألا يتعدى الترويح والمرح إلى الخصومات، فلذلك لزم أن نتحدث عن المزاح ضمن الآداب الإسلامية. تعريف المزاح: المزح والمزاح: الدعابة، وهو نقيض الجد. فالمزاح: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى، فإن بلغ به الإيذاء فهو السخرية. مشروعية المزاح: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ويداعب أهله وأبناءه وأصحابه، ولكن لم يؤثر عنه الكثير في هذا المجال لاستيعاب الجد وقته كله، فقد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه مزح، كما روى الترمذي رحمه الله عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ) يا ذا الأذنين (. قال أبو أسامة الراوي: أي: يمازحه، وليس المقصود السخرية أو الاستهزاء، وإنما ممازحة منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان له أذنان، وهو حديث صحيح. فالمزاح مشروع، كما دل على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ذلك ما يلي: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله! إنك لتداعبنا! قال صلى الله عليه وسلم: ) إني لا أقول إلا حقًّا ( وفي رواية: ) إني لأداعبكم (. 2- وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: ) يا زوينب! يا زوينب! ( مرارًا. 3- وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: ) يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ (. 4- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي رضي الله عنهما، فيرى الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه. أي: يسرع إليه بعد أن أعجب به. 5- وعن أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ) إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه ( قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ) من يشتري العبد؟ ( فقال: يا رسول الله! إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ) لكن عند الله لست بكاسد (، أو قال: ) لكن عند الله أنت غال (. كذلك مزح الشعبى يومًا، فقيل له: يا أبا عمرو! أتمزح؟ قال: إن لم يكن هذا متنا من الغم. قال أبو الفتح البستي: <TABLE style="WIDTH: 323px; HEIGHT: 73px" border=0 cellSpacing=1 cellPadding=1 width=323 align=center>
<TR> <td>أفد طبعك المكدود بالجد راحة </TD> <td>ولكن إذا أعطيته المزح فليكن </TD></TR> <TR> <td>تراح، وعلله بشيء من المرح </TD> <td>على قدر ما يعطى الطعام من الملح </TD></TR></TABLE>
أنواع المزاح: المزاح المحمود: وضابطه كما قال ابن حبان: «هو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم». المزاح المذموم: وضابطه كما قال ابن حبان أيضًا: «الذي يثير العداوة، ويُذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنيء عليه، ويحقد الشريف به». الأهداف السامية في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم: جاء في السنة النبوية صور كثيرة تذكر أن النبي كان يمازح أصحابه ويمازحونه، وهذا يفيد إباحة المزاح إذا خلا عن الحرام كالكذب والترويع. ومن صور مزاح النبي ما رواه جابر، قال: كان رسول الله إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أخلق الناس وجهًا وأكثرهم ضحكًا (تبسمًا) وأحسنهم بشرًا. لكن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للعبث أو لمجرد الترويح، بل كان جزءًا من تربيته لأصحابه، فمن أهداف مزاح النبي صلى الله عليه وسلم: 1- المزاح للتحبب: ) قدم صهيب رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز قال: ادن فكل، فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بعينك رمدًا»، فقال: يا رسول الله: إنما آكل من الناحية الأخرى. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (. وعن أنس رضي الله عنه ) أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، احملني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد الناقة؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق (. وعن أنس رضي الله عنه قال: ربما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ) يا ذا الأذنين (. ويقول عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: ) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلمت، فرد وقال: «ادخل» فقلت: أكلي يا رسول الله؟ قال: كلك، فدخلت (. قال عثمان بن أبي العاتكة: إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة. وبينما أسيد رضي الله عنه يحدث القوم وكان فيه مزاح، بينما يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، فقال: «اصطبر»، قال: إن عليك قميصًا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه، وجعل يقبل كشحه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. |